ماهو تفسير اية وربك يخلق ما يشاء ويختار … يقول إيتي ذكره : ( وربك ) يا محمد ( يخلق ما يشاء ) أن يخلقه ( ويختار ) لولايته الخيرة من خلقه، ومن سبقت له منه السعادة . وإنما صرح جل ثناؤه : ( ويختار ما كان لهم الخيرة ) والمعنى : ما نعتت وصورت، لأن المشركين كانوا فيما ذكر عنهم يختارون ثرواتهم، فيجعلونها لآلهتهم، فقال الله لنبيه محمد عليه الصلاة والسلام : وربك يا محمد يخلق ما يشاء أن يخلقه، ويختار للهداية والإيمان والعمل الصالح من خلقه، ما هو في سابق علمه أنه خيرتهم، بدل ما كان من هؤلاء المشركين لآلهتهم خيار نقودهم، فكذلك اختياري لنفسي . واجتبائي لولايتي، واصطفائي لخدمتي وطاعتي خيار مملكتي وخلقي .
ماهو تفسير اية وربك يخلق ما يشاء ويختار
ذكر من أفاد ذلك :
حدثني محمد بن سعد، أفاد : ثني أبي، أفاد : ثني عمي، قال : ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله : ( وربك يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة ) قال : كانوا يجعلون خير أموالهم لآلهتهم في الجاهلية . فإن كان معنى ذاك ايضاً، فلا شك أن ” ما ” من كلامه : ( ويختار ما كان لهم الخيرة ) في مكان نصب، بحدوث يفاضل فوق منها، وأنها بمعنى الذي .
فإن قال قائل : فإن كان الامر مثلما وصفت، من أن ” ما ” اسم منصوب بوقوع ع قوله: ( يختار ) عليها، فأين خبر كان ؟ فقد علمت ذلك كان كما قلت، أن في كان ذكرا من ما، ولا بد لكان لو أنه ايضاً من تمام، وأين التمام ؟ قيل : إن العرب
[ ص: 609 ] تجعل لحروف الصفات إذا جاءت الأنباء بعدها، أحيانا، أخبارا، كفعلها بالأسماء إذا أتت بعدها أخبارها، ذكر الفراء أن القاسم بن معن أنشده قول عنترة :
أمن سمية دمع العين تذريف لو كان ذا منك قبل اليوم معروف
فرفع معروفا بحرف الصفة، وهو لا شك نبأ لهذا، وذكر أن المفضل أنشده هذا :
لو أن ذا منك قبل اليوم معلوم
ومنه ايضا قول عمر بن والدي ربيعة :
قلت أجيبي عاشقا بحبكم مكلف
فيها ثلاث كالدمى وكاعب ومسلف
[ ص: 610 ]
اقراء ايضا : أحد الوصايا الأربعة العظيمة في سورة العصر ومتى نزلت
فمكلف من نعت عاشق، وقد رفعه بحرف الملمح، وهو الباء، في أشباه لما ذكرنا بشكل أكثر من الدلائل، فكذلك تصريحه : ( ويختار ما كان لهم الخيرة ) رفعت الخيرة بالصفة، وهي لهم، إن كانت خبرا لما، لما أتت بعد الخاصية، ووقعت السمة موقع النبأ، فصار كقول القائل : كان عمر وأبوه جاري، لا يوجد شك أن قائما إذا كان مقر الوالد، وقد كان الأب هو المتأخر بعده، كان منصوبا، فكذلك وجه رفع الخيرة، وهو نبأ لما .
فإن قال قائل : فهل يجوز أن تكون ” ما ” في ذاك الموضع جحدا، ويكون معنى البيان : وربك يخلق ما يشاء أن يخلقه، ويختار ما يشاء أن يختاره، فيكون قوله : ( ويختار ) نهاية الخبر عن الخلق والاختيار، ثم يكون البيان عقب هذا مبتدأ، بمعنى : لم تكن لهم الخيرة : أي لم يكن للخلق الخيرة، وإنما الخيرة لله وحده ؟
قيل : ذاك قول لا يخفى فساده على ذي حجا من وجوه، لو لم يكن بخلافه لأهل التأويل قول، فكيف والتأويل عمن ذكرنا بخلافه ; فأما واحد من وجوه فساده، فهو أن تصريحه : ( ما كان لهم الخيرة ) لو كان مثلما ظنه من ظنه، من أن ” ما ” بمعنى الجحد، على صوب التأويل الذي أوضحت، كان إنما جحد تعالى ذكره، أن تكون لهم الخيرة في حين رحل عن قبل تدني هذه الآية، فأما بينما يستقبلونه فلهم الخيرة، لأن قول القائل : ما كان لك ذاك، لاشك إنما هو خبر عن أنه لم يكن له ذلك في حين غادر . وقد يمتلك أن يكون له فيما يستقبل، ولذا من الكلام لا شك خلف . لأن ما لم يكن للخلق من ذاك قديما، فليس ذاك لهم بأي حال من الأحوال . وبعد، لو أريد هذا المعنى، لكان الكلام : فليس . وقيل : وربك يخلق ما يشاء ويختار، ليس لهم الخيرة، ليصبح نفيا عن أن يكون هذا لهم بينما قبل وفي حين عقب .
والثاني : أن كتاب الله أبين البيان، وشرح الخطبة، ومحال أن يبقى فيه شيء غير مفهوم المعنى، وغير جائز في الكلام أن يقال ابتداء : ما كان لفلان الخيرة، ولما يتقدم قبل ذاك كلام يجب ذلك ; فكذلك قوله : ( ويختار ما كان لهم الخيرة ) ولم يتقدم قبله من الله تعالى ذكره نبأ عن أحد، أنه ادعى أنه كان له الخيرة، فيقال له : ما كان لك الخيرة،
[ ص: 611 ] وإنما جرى قبله النبأ عما هو صائر إليه أمر من تاب من شركه، وآمن وعمل صالحا، وأتبع ذلك جل ثناؤه الخبر عن سبب إيمان من آمن وعمل صالحا من ضمنهم، وأن ذلك إنما هو لاختياره إياه للإيمان، وللسابق من علمه فيه اهتدى . ويزيد ما قلنا من هذا توضيح كلامه : ( وربك يعرف ما تكن صدورهم وما يعلنون ) فأخبر أنه يعرف من عباده السرائر والظواهر، ويصطفي لنفسه ويختار لطاعته من قد علم منه السريرة الصالحة، والعلانية الرضية .
والثالث : أن معنى الخيرة في ذاك الموضع : إنما هو الخيرة، وهو الشيء الذي يمايز من البهائم والأنعام والرجال والنساء، يقال منه : أعطي الخيرة والخيرة، مثل الطيرة والطيرة، وليس بالاختيار، وإذا كانت الخيرة ما وصفنا، فمعلوم أن من أمثل البيان أن يقال : وربك يخلق ما يشاء، ويختار ما يشاء، لم يكن لهم خير بهيمة أو خير قوت، أو خير رجل أو امرأة .
فإن أفاد : فهل يجوز أن تكون بمعنى الأصل ؟ قيل : لا وهذا أنها إذا كانت مصدرا كان معنى الخطبة : وربك يخلق ما يشاء ويختار كون الخيرة لهم . لو أنه هذا معناه، وجب ألا تكون الشرار لهم من البهائم والأنعام ; وإذا لم يكن لهم شرار ذاك وجب ألا يكون لها مالك، وهذا ما لا يخفى خطؤه، لأن لخيارها ولشرارها أربابا يملكونها بتمليك الله إياهم ذاك، وفي كون ذلك كذلك فساد توجيه ذلك إلى معنى الأصل .
وقوله : عز وجل : ( عما يشركون ) يقول هلم ذكره تنزيها لله وتبرئة له، وعلوا عما أزاد إليه المشركون من الشرك، وما تخرصوه من الكذب والباطل فوق منه .
وتأويل الخطاب : سبحان الله وتعالى عن شركهم . وقد كان بعض أهل العربية يسوقه إلى أنه بمعنى : وتعالى عن الذي يشركون به .